مشكلة الاستقراءInduction problem ofبقلمتقي الحسني· المقــدمة· الاستقراء في المنطق الأرسطي· أساس التقسيم الأرسطي للاستقراء· الملاحظة والتجربة· ملاحظات· الاستقراء التام· ملاحظات· الاستقراء الناقص· ما هي فكرة تداعي المعاني؟· دافيد هيوم والاستقراء· السببية العامة· الفرق بين القضية الأولية والقضية الاستقرائية· المعالجة الأرسطية لمشكلة الاستقراء· الاتفاق في المنطق الأرسطي· نقد المعالجة الأرسطية لمشكلة الاستقراء الناقص· نقد كارل بوبر· ملاحظات· اعتراضات السيد الشهيد(قده) على المعالجة الأرسطيةبسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعلى اله الطيبين الطاهرين .بين الحين والحين يمرَّ الاستقراء الأرسطي بمخاضات عسيرة ينتج عنها انتقادات توجه إليه ودفاعات مستميتة للذب عنه, إلا ان كل ذلك بقي على المحك, حتى جاء (دافيد هيوم) الذي انتقد الاستقراء من أساسه, فتولدت مشاكل جديدة كان لها الدور البارز في النضج الفلسفي الغربي خصوصا, ففلسفة هيوم تعد انعطافة نوعية نحو الرقي والتقدم بالفلسفة عامة, يقول الفيلسوف العقلي (عمانوئيل كانط) واصفا فلسفة هيوم: ((إنني لاعترف صادقا ان ما استذكرته من تعليم دافيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث - منذ أعوام كثيرة - أول هزة أيقظتني من سبات جمودي ألاعتقادي, ووجه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة)), لهذا كان كتابه (نقد العقل المجرد) محاولة لإنقاذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدثها هيوم.ويعترف الكثير ان هيوم هو الذي أوجد في الاستقراء مشكلته المنطقية اعتمادا على تفسيره للسببية- إلا ان الأستاذ (سالمون) يعتقد ان هذه المشكلة كانت معروفة قبل هيوم بمدة طويلة. وشيع عنه انه (أثار الفضيحة في الفلسفة) فجاءت محاولات البعض عقيمة, وان المشكلة قائمة ولا تزول, وبعضهم ينفي المشكلة من الأساس, وبعض اتخذ سبيلاً وسطاً, وآخر يؤمن بالطريقة الاستقرائية, لكنه في الوقت ذاته يعترف بعجز الفلسفة عن ان تجد حلا لمشكلة الاستقراء, فقد وصف (برود) المشكلة بـ (فضيحة الفلسفة), بينما عبرَّ (وايتهيد) بـ (يأس الفلسفة), ويقول (كاتز): إن المعضلة التي جاء بها هيوم بقيّ مفعولها ساريا من دون مقاومة تذكر طوال مائة وثمانين سنة. فمع محاولة (بيرس) Peirce بتقديمه الحجة البرجماتية لتبرير الاستقراء والتي تبينت أنها كثيرة الشبه بمسعى (رايشنباخ) فيما بعد, إذ ان ما قدمه بيرس سنة(1878) لم يكن معروفا حتى شيوع أفكار رايشنباخ وقبولها كمنافس جدي للشكية التي خلقها هيوم.ولعل أول من أشار إلى مشكلة الدور في الاستقراء هو جون لوك, إلا أنها بقيت صياغة معوزة وساذجة, فمشكلة الدور كشف اللثام عنها هيوم, كما سيأتي.فهذا البحث هو محاولة لتسليط الضوء على مشكلة الاستقراء, ولعل أصعب ما واجهناه في هذه الدراسة هو قلة المصادر الانكليزية, و صعوبة تحصيلها, إلا إننا ذللنا هذه الصعوبة قدر المستطاع.لذا تطرقنا إلى اصل الاستقراء وبدايته الأرسطية, واهم الأسس التي اعتمدها المنطق الأرسطي كان هذا في المبحث الأول, أما المبحث الثاني تطرقنا للملاحظة والتجربة, وذكرنا بعض الملاحظات حول ذلك.وتكلمنا في المبحث الثالث والرابع حول الاستقراء التام والاستقراء الناقص ومشكلة الطفرة فيه ثم بينا فكرة تداعي المعاني واختلافها, أما في المبحث الخامس فتطرقنا إلى رأي هيوم بالاستقراء, وإشكال الدور الذي صاغه, وشرحنا شرحاً مبسطا لقانون السببية العام, وفي المبحث السادس ذكرنا المعالجة الأرسطية للاستقراء, وبينا معنى الاتفاق في المنطق الأرسطي, وفي المبحث السابع تعرضنا لأهم الانتقادات للمعاجلة الأرسطية لمشكلة الاستقراء .المبحث الأولالاستقراء في المنطق الأرسطيبنظرة إجمالية نطل على الاستقراء الأرسطي, كي نرى الأسس والاعتبارات التي قسم أرسطو من خلالها الاستقراء, و أين تكمن مشكلته ؟لعل أول من درس الاستقراء دراسة منطقية هو أرسطو, فالفضل مسجل له وان أُستُخدم من قبل هذا المصطلح عند أفلاطون([1]), فالاستقراء عند أرسطو كما يقول ابن سينا: (هو الحكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي, اما كلها, وهو الاستقراء التام, و اما أكثرها, وهو الاستقراء المشهور)([2]).فعلى ضوء تعريف ابن سينا يتضح أن الاستقراء قسمان تام, وناقص, وان ذهب بعضهم إلى إضافة قسم آخر وهو: (الاستقراء الحدسي)([3]), وذهب البعض الآخر إلى أن أرسطو لم يطلق اسم (الاستقراء) على ذلك النوع من الإدراك الحدسي الذي يهدينا إلى صدق القضايا الكلية الضرورية, وقصر التسمية على الاستقراء التام الذي تجيء النتيجة فيه تلخيصا لمقدماته([4]).واخطأ من جعل الاستقراء الحدسي هو الاستقراء الناقص([5])؛ لان الأول يعتبر منبه ومثير للذهن, فمن خلال شاهد أو عدة شواهد تنبثق في الذهن القاعدة البديهية الأولية, وكما سيأتي.إلا أن الذي يهمنا في بحثنا هذا هو الاستقراء الناقص, ومشكلة الطفرة فيه, لكن هذا لا يعني أن نترك الاستقراء التام دون أن نتعرض له.أساس التقسيم الأرسطي للاستقراءإن أساس التقسيم الأرسطي للاستقراء هو الاستدلال الذي يقوم على أساس الحالات والأفراد.ولم يجعل للملاحظة والتجربة حظا في تقسيمه؛ لهذا كانت نتيجة هذا التقسيم هو الاستيعاب وعدمه, فان كان الاستقراء مستوعبا لجميع الحالات والأفراد فهو المعبر عنه بالاستقراء التام – الكامل – وان لم يكن مستوعبا لجميع الحالات و الأفراد فهو الناقص .وكي نتعرف على مكمن مشكلة الاستقراء لابد من تسليط الضوء على (الملاحظة والتجربة) وعلاقتهما بالاستقراء, ولماذا لم يميز بينهما المنطق الأرسطي حين عالج الاستقراء ؟المبحث الثانيالملاحظة والتجربة (Observation and Experiment)تطلق الملاحظة على ما يحكم فيه الحس, سواء كان من الحواس الظاهرة أو الباطنة, تقوم على أساس التوجه إلى الشيء في يقظة وانتباه, للاطلاع عليه كما هو, دون تبديل أو تغير, والملاحظة تقابل التجربة, إلا أن التقابل بينهما مختلف باختلاف العلماء([6]) .فزيمرمان(Zimmermann) يقول: إن الملاحظة هي مشاهدة الظواهر على ما هي عليه في الطبيعة, على حين أن التجريب هو التدخل الفعلي في مجرى الطبيعة لتبديل ظواهرها وما ينشأ من هذا التبديل([7]). وذهب كلود برنارد إلى معنى قريب وجعل التجربة ملاحظة محدثة (Observation provoque'e) ([8]).وقسموا الملاحظة إلى خارجية (Extern) وهي مشاهدة الظواهر على ما هي عليه في العالم الخارجي, والى داخلية(Internal), وهي ملاحظة ما يحصل في النفس من الأحوال والظواهر.اما التجربة فلها معنى عام وأخر خاص, فالعام هو: الاختبار الذي يوسع الفكر ويغنيه, وقال بعض: هي التقدم العقلي الذي تكسبنا إياه الحياة, فجعلوها بهذا المعنى قسمين,قسم الفرد وقسم النوع([9]).اما القسم الآخر فهو المعني هنا : وهي – التجربة بالمعنى الخاص- ملاحظة الظواهر الطبيعية في شروط معينة, يهيئها المجرب بنفسه, ويتصرف فيها بإرادته.وذهب استوارت مل: أن التجربة هي: تحقق نظرية أو فرضية أو توليد فكرة وليس ذلك من شرط الملاحظة([10]). وهي عند كانط ليست مجرد مادة للمعرفة بل أنها تنطوي على المعرفة إذ هي تعرض لنا مجموعة من الارتباطات المنظمة, وسيان القول بان هذا الترابط ناجم عن طبيعة الأشياء ذاتها أو ناشئ من تدخل العقل أو من الاتفاق بين طبيعة الأشياء وقوانين الفكر.ملاحظات :· لم يميز أرسطو بصورة أساسية بين الملاحظة والتجربة في معالجته للاستقراء, واعتبره إضافة إلى ذلك مجرد معرفة محدودة يتصف بها الشباب, وانه لا يستخدم إلا للدفاع عن حجج العامة أو دحض أرائهم([11])· التجربة عند المنطق الأرسطي هي المؤلفة من الاستقراء الناقص والمبدأ الذي يدعي المنطق الأرسطي بداهته(الاتفاق لا يكون دائميا ولا اكثريا). وكما سيأتي, وإلا فمجرد الاستقراء الناقص لا يفيد علماً .· إن الملاحظة تستدعي انتظار الزمن الذي تحدث فيه الظاهرة, وهذا قد يستغرق وقتا طويلا, بينما التجربة يستطيع الباحث من خلالها أن يكيف الوقت متى ما يشاء لهذا ميز بينهما هرشل J.Harschel على أن التجربة فعالة بينما الملاحظة منفعلة([12]) وبناءا على مذهب زيمرمان يبدو أن بين التجربة والملاحظة عموم وخصوص مطلق .· لابد في كل ملاحظة خارجية كانت أو داخلية من التفريق بين الذات المدركة والشيء المدرك, وإلا لما أمكن الانتقال من الذاتي إلى الموضوعي.· لم يهمل أرسطو التجربة وإنما اعتبرها الطريقة التي يستقر الكلي بواسطتها في النفس([13])المبحث الثالثالاستقراء التاميسميه البعض استقراء صورياً (Formelle), وهو كما بين أرسطو, حكم على الجنس لوجود ذلك الحكم في جميع أنواعه([14]). أكد أرسطو على هذا الاستقراء وآمن به وجعله الأساس للتعرف على المقدمات الأولى التي يبدأ منها تكوين الاقيسة, وان الطريق الوحيد لمعرفتها هو الاستقراء التام. لأننا عن طريق القياس إنما نبرهن ثبوت الحد الأكبر للأصغر بواسطة الحد الأوسط, الذي بدوره محمول للأصغر وموضوع للأكبر. والقياس يحتاج إلى وسيط فلا يمكن استخدامه في المقدمات الأولية التي يثبت فيها المحمول للموضوع بذاته وبدون واسطة, لذا افترض المنطق الأرسطي ان الطريق الوحيد للبرهنة على هذه المقدمات هو الاستقراء التام([15]) .قال أرسطو : (( وينبغي أن تعلم: أن الاستقراء ينتج أبدا المقدمة الأولى التي لا واسطة لها, وبالواسطة يكون قياسها. اما الأشياء التي لا واسطة لها, فأن بيانها يكون بالاستقراء, والاستقراء من جهة يعارض القياس؛ لان القياس بالواسطة يبين وجود الطرف الأكبر في الأصغر, وأما بالاستقراء فيبين بالطرف الأصغر وجود الأكبر في الأوسط))([16])هكذا نجد أرسطو في هذا النص وثق بالاستقراء الكامل, واتخذ منه الأساس الأول لكل الاقيسة والبراهين؛ لان كل هذه البراهين تستمد من المقدمات الأولية, وهذه المقدمات تثبت بالاستقراء, لا بالقياس([17]). بالتالي فأن الاستقراء التام هو الوحيد الذي يفيد اليقين وإنما الاستقراء الناقص لا يفيد إلا الظن .إلا أن أستاذنا السيد عمار أبو رغيف قال ما مفاده : إلا انه بعد التتبع اتضح انه ليس المقصود هنا (الاستقراء التام)؛ لان أرسطو قال: (..بيانها يكون الاستقراء), والمقصود هو (الاستقراء الحدسي)([18]) . وعليه يكون الاستقراء الذي وثق به أرسطو وجعل منه الدليل لإثبات المقدمات الأولية هو الاستقراء الحدسي؛ لان الاستقراء التام لو كان هو المقصود لأصبح الواسطة للمقدمات التي لا واسطة بينها, وهذا ما لم يقصده أرسطو بحسب النص المتقدم. فمراد أرسطو إذا أن الأشياء التي لا واسطة لها قد يغفل عنها الذهن, ولا ينتبه إليها إلا بشاهد أو عدة شواهد ليصل فورا إلى تلك البديهيات التي اغفل عنها .ملاحظات :· يرى عالم المنطق الرياضي (لوكاشيفتش) ان اصطلاح (أرسطو) وتعريفه للحد الأكبر والأصغر والأوسط مشوش حتى في مجال الاستنتاج القياسي: ((هناك خطأ ارتكبه أرسطو في التحليلات الأولى كانت نتائجه على قدر أكثر من الخطورة وهو يتصل بتعريفه للحد الأكبر والحد الأصغر والحد الأوسط ...))([19])· أن الضرورة الصورية يضمنها أرسطو من خلال الإشكال القياسية, اما الضرورة المادية فتتحقق من خلال الاستقراء الحدسي .· ان استقراء الأفراد مهما كان شاملا ومستوعبا لا يمتد خارج نطاق الأفراد التي وجدت فعلا للمعنى الكلي, لان الأفراد التي لم توجد بعد وبالإمكان أن توجد لا يمكن أن يشملها الاستقراء, وكذا لا يمكن للاستقراء وحده أن يثبت منطقيا أي حكم إلا في اللحظات التي تمت فيها عملية الاستقراء.· يتضح مما تقدم أن الاستقراء الكامل لا يمكن أن يستخدم للاستدلال على القضايا الكلية في العلوم استخداما منطقيا على أساس مبدأ عدم التناقض؛ لان النتيجة تأتي دائما اكبر من المقدمات بحكم اشتمالها على أفراد المستقبل والأفراد الممكنة التي لم يشملها الاستقراء.· واجه الاستقراء الكامل في بعض الدراسات اعتراضا ينكر أن يكون الاستقراء الكامل دليلا بأي شكل من الإشكال, ومفاد هذا الاعتراض: أننا لو استقرئنا قطع الحديد قطعة قطعة, لنصل إلى حكم كلي وهو كل حديد يتمدد بالحرارة, وصادفنا حجرا –حديد- عرفنا انه يتمدد بالحرارة لا بالحكم الذي أصدرناه, بل لأننا استقريناه في المقدمات, وإلا ما كان الاستقراء كاملا, وإنما يكون الاستدلال حين يصادفني شيئا لم أكن قد بحثته بذاته ضمن الأمثلة التي أدت بي إلى النتيجة, فأستدل أن الحكم الذي في النتيجة لابد أن يكون منطبقا على ذلك الفرد الذي لم أكن قد بحثته([21]).وقد أجاب السيد الشهيد(قده) على هذا الاعتراض بقوله: (( إن هذا الاعتراض يمكن الجواب عليه من وجهة المنطق الأرسطي؛ لان أرسطو حين جعل الاستقراء الكامل دليلا لم يكن يحاول الاستدلال به على أن هذا الحجر يتعرض للجاذبية أو ذاك يتعرض للجاذبية بل على أن كل أجزاء المادة تتعرض للجاذبية, فقد ميز أرسطو بين القياس والاستقراء, فيرى أن القياس دليلا على ثبوت الحد الأكبر للحد الأصغر بواسطة الأوسط, وان الاستقراء دليل على ثبوت الحد الأكبر للأوسط بواسطة الأصغر. وعلى ضوء هذا التميز من أرسطو بين القياس والاستقراء نستطيع أن نعرف أن النتيجة التي يراد في الاعتراض تحميلها على الاستقراء الكامل, وهي : أن هذا الحجر أو ذاك يتعرض للجاذبية ليست نتيجة مستدلة استقرائيا عند أرسطو, بل مستدلة قياسيا..))([22])المبحث الرابعالاستقراء الناقصإشكالية هيوم أو مشكلة الاستقراءجاء في منطق الشفاء: (( أن الاستقراء اما يكون مستوفيا للأقسام, واما أن لا يوقع غير الظن الأغلب))([23])فالمستوفي للأقسام هو التام, والذي لا يستوفي لجميع الأقسام ولا يوقع غير الظن على الأغلب هو الاستقراء الناقص, وهو المعني من بحثنا هذا الذي سنتناوله بشيء من التفصيل في دراستنا هذه.تكمن مشكلة الاستقراء في التعميم, أي الانتقال من الخاص إلى العام, ولعل أول من أعاد هذه المشكلة إلى ساحة الصراع هو (دافيد هيوم), وان ذهب البعض ان (بيكون) قد سبقه في التعرض للاستقراء إلا انه يبقى هذا السبق مسطحا وساذجا على حد تعبير(رايشنباخ)([24]) , وذهب بعض ان هيوم لم يستخدم مصطلح (الاستقراء) في كلامه عن التناقض([25]). ومع إنكار هيوم لمبدأ العلية وان علاقة العلية لا تنشأ عن التفكير العقلي الخالص, ولا يمكن استنباط مبدأ العلية من مبدأ عدم التناقض, إذ لا تناقض في تصور بداية شيء دون رده إلى علة. يضيف هيوم ان علاقة العلية في أي حالة من حالاتها لا يوجد لدينا علم قبلي مستقل عن الخبرة الحسية بها, وإنما نعلم بها على أساس الخبرة والتجربة.والمتتبع لرأي (هيوم) في المسألة يعرف انه لم ينكر مبدأ العلية, وإنما رفض ان تكون العلية مبدأ فطري أو تصور قبلي في العقل الإنساني وأعلن ان مبدأ العلية مبدأ يستمد قوته من التجربة والتكرار, وبهذا فتح المجال أمام الشك بالعلية, لأنه لم يجعلها شبيهة بالمبادئ المنطقية أو الرياضية التي يكون من المستحيل فيها اجتماع النقيضين؛ أي من المستحيل ان تصدق المقدمات ولا تصدق النتائج. فاتجه هيوم إلى تفسير مبدأ العلية على أساس ذاتي نفسي, وان العلاقة بين العلة والمعلول وليدة الفكر, وهذا هو المسمى بفكرة (تداعي المعاني) .ما هي فكرة تداعي المعاني؟ترجع الأسباب التي تجمع بين المعاني, وتجعل حضور بعضها يستدعي حضور البعض الآخر إلى ثلاثة أنواع :النوع الأول: اقتران المعنيان في الذهن بحيث ان تعقلهما أو الإحساس بهما في آن واحد أو على التعاقب, ومن هذا تذكر الوقائع عندما يخطر في الذهن (مكانها), كما قال بن الرومي:وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكإذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكأو عندما يخطر في الذهن (زمانها) كقول الخنساء :يذكرني طلوع الشمس صخراً واذكره لكل غروب شمسوإنما خصت الخنساء هذين الوقتين لمآثر صخر فيهما, ففي الصباح كان يغير, والإغارة عند العرب مظهر من مظاهر الشجاعة, وعند المغيب كان يبذل الطعام للجياع وهو كناية عن الكرم, ومن هذا الوجه نشأت الكنايات وبعض أنواع المجاز المرسل, اما الكنايات فلأنها دلالة على المعنى بأسم ما يلازمه في الخارج وصح هذا نظراً إلى ان حضور المعنى الموضوع له اللفظ يستدعي حضور لازمه في ذهن المخاطب, كقول الحصين بن الحمام المري :تأخرت استبقي الحياة فلم أجــــد لنفسي حياة مثل ان أتقدماولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدمافالحياة عنده هي حياة الإقدام وليس الهزيمة ولذا فأن دمائهم تقطر على الأقدام وليس على الأعقاب لأنهم يواجهون العدو ولا يولون الدبر .وأما بعض أنواع المجاز المرسل فكإطلاق اسم الحال على المحل والسبب على المسبب, والكل على الجزء وبالعكس, ومداره ان ذهن المخاطب ينتقل إلى المعنى المراد بسهولة حيث كان بينه وبين المعنى الحقيقي مناسبة تقضي تقارنهما في الذهن, لان إدراكهما كان في وقت واحد كالحال والمحل, والكل والجزء, أو على التعاقب كالسبب والمسبب.النوع الثاني: الأسباب التي تتلاحق بها المعاني في الذاكرة وتتداعى, وهذا يتحقق في المعاني المتضادة, فان الصور التي بينها تضاد لا يكاد بعضها يتخلف عن بعض, فمن تصور الشجاعة خطر في ذهنه معنى الجبن, ومن خطرت بباله الصداقة تذكر العداوة, ولهذا ادخل علماء البلاغة في وجوه الوصل بين جملتين ما يقوم بينهما من التضاد في المعنى وساقوا أمثلة كقوله تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}([26]), وكقول المتنبي :أزورهم وسواد الليل يشفع لي وانثني وبياض الصبح يغري بيولذا صحَّ لهم ان يعدَّوا من علاقات المجاز المرسل الضدية .النوع الثالث: التشابه, وهو ان يكون بين المعنيين تماثل في أمور خاصة, كمن يرى الرجل الشجاع فيتصور الأسد, أو كمن يسمع الألفاظ البليغة فيتذكر كلام أمير المؤمنين (عليه السلام), أو كمن يسمع بكربلاء فيتذكر واقعة ألطف ويتقطع قلبه ألما لما جرى على آل بيت رسول الله (صلى الله عليه واله), وعلى هذا النوع يقوم فن التشبيه والاستعارة اللذين هما أوسع مضمار تتسابق فيه قرائح الشعراء والكتاب .ولعل من المهم ان نطرح السؤال التالي: لماذا تختلف بعض الأفكار عند الناس في تداعي المعاني ؟جوابه:يختلف الناس فيما يتداعى إليهم من المعاني لسببين رئيسيين:1- ان المزاج و العواطف النفسية لها مدخل في تجاذب المعاني واسترسالها في الذهن والنفس, فالطمع, والخوف, والتهور تستدعي المعاني العائدة على الذم, والحزن يستدعي معاني الرثاء, والشكوى, والسرور يستدعي معاني البهجة والهناء, والإعجاب بالنفس أو العشيرة يستدعي معاني الفخر والحماسة, والزاهد في الدنيا لايسع خياله من معاني الإطراء والملق ما يسعه خيال الحريص عليها, والعاشق للمحبوب لاتخطر بباله غير معاني الغزل والحب.2- للبيئة الأثر المهم الآخر في هذا الاختلاف, فالذي يعيش النعيم والترف يتوارد على ذهنه من المعاني مالا يتوارد على ذهن المعوز الفقير, والمعاني التي تتوارد على ذهن ساكن البادية والصحراء تختلف عن المعاني التي تتوارد على ذهن ساكن المدينة, وكذا الساكن في الطرف الآخر من الأرض يختلف توارد المعاني عن الطرف المقابل له, لاختلاف المناخ والبيئة.وما تقدم من توضيح لتداعي المعاني ليس هو العلية التي يدور البحث حولها مع هيوم . ولذا فان ما ذهب إليه هيوم من ان العلم بالعلية ناتج عن الرابطة السببية المستمدة من الخبرة الحسية بين الأشياء([27]) و لا يمكن للإنسان مهما أوتي من قدرات عقلية ان يستدل على الرابطة السببية ما لم تكن تلك الرابطة قد اقترنت بخبراته الماضية, لذلك يضرب (هيوم) مثلاً بقوله : (( فادم – على افتراض كمال قدراته العقلية – ما كان يستدل من سيولة الماء وشفافيته انه يختنق به لو غرق فيه, أو يستدل من الضوء أو الدفء اللذين ينبعثان من النار, انه يحترق لو وثب فيها, ذلك انه محال على الإنسان ان يستدل من بعض الخصائص الحسية لشيء ما بعضها الآخر, دون ان تكون هذه وتلك قد اقترنتا في خبراته الماضية اقتراناً يبرر له استدلال بعضها هذا من بعض ذاك))([28]). لهذا فهو ينطلق في موقفه من الاستدلال الاستقرائي بوصفه عادة ذهنية استنادا إلى نزعته التجريبية وموقفه من قضايا الواقع الموضوعي, فلقد ميز هيوم بين نوعين من القضايا, القضايا الرياضية والمنطقية من جهة والقضايا الموضوعية من جهة أخرى حيث اعتبر القسم الأول قضايا صادقة (صدقا مطلقا) بمبدأ استحالة اجتماع النقيضين. اما النوع الثاني من القضايا فهي القضايا المتعلقة بالوقائع, وهذه القضايا يتوقف صدقها على التحقق التجريبي لها أي يمكن تصور نقيض هذه القضايا أو ان صدقها وعدمه يستويان في الإمكان([29]).المبحث الخامسدافيد هيوم والاستقراءلقد أدرك هيوم أننا لو اعتبرنا الدليل الاستقرائي مبرراً تبعا لنجاحه في الماضي, فأن ذلك يجعله واقعا في الدور([30]). وهذا يعني ان العملية الاستقرائية لا يمكن لها ان تتم بالشكل المطلوب مالم يكن هناك افتراضا يفسر العلاقات الجارية في الطبيعة بالحتمية . وحيث ان هذا الافتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فأن الاستقراء يضل عاجزا عن تقديم المعرفة الجديدة, فعلى رأي هيوم يتضح ان كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الاستدلال الاستقرائي لا بد ان تواجه حلقة فارغة من الدور . واعترض هيوم على مبدأ (الحالات المتشابهة تنتج نتائج مماثلة), الذي حاول من خلاله المنطق الأرسطي معالجة مشكلة الاستقراء- ليس وحده هذا المبدأ الذي عالج فيه المنطق الأرسطي مشكلة الاستقراء- من انه ليس مبدأ منطقيا قائما على أساس استحالة اجتماع النقيضين, وإنما هو مستمد من التجربة, الأمر الذي يفضي به إلى الوقوع في الدور([31]).وقد برر هيوم الدليل الاستقرائي من الناحية السيكولوجية بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة, وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي فيها تنتزع الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع .لكن المشكلة التي تورط فيها الاتجاه التجريبي هي اعتقاده بالتعميم الاستقرائي على أساس ارتكازه على قضايا السببية وزعم في الوقت نفسه ان القضايا السببية نتاج استقرائي- تعبير عن تعميمات استقرائية سابقة - .السببية العامةلابد من إطلالة سريعة على هذا العنوان حيث ان دراسة ( مفهوم السببية) هو الكاشف عن ضبابية الأفكار والمفصح عن أراء المدارس والمذاهب المتعددة, فالعقليين لهم رأي, والتجريبيين كذلك, والسيد الشهيد(قده) أيضا, فمفهوم السببية هو الذي يحدد منهجية كل هؤلاء في نظرته إلى العالم, فتعرضنا لرأي (هيوم) كاشف عن رأي المذهب التجريبي. اما السببية بمفهومها العقلي تعبر عن علاقة الإيجاب والضرورة بين ظاهرتين. فأي ظاهرتين تؤثر إحداهما في وجود الأخرى حتما, فالمؤثرة هي السبب, والظاهرة الموجود نتيجة ذلك السبب هي المسبب .و اما السببية على رأي المذهب الذاتي, فهي توافق التجريبي من ان قضايا السببية تستنتج من الاستقراء نفسه, لكن من دون رفض المصدر العقلي القبلي لها, بل حتى لو استبعدنا العلم العقلي القبلي لهذه القضايا يظل بالإمكان إثبات قضايا السببية في عالم الطبيعة عن طريق الاستقراء. فالدليل الاستقرائي في المنطق الذاتي قادر بمفرده وبدون مصادرات قبلية عن السببية على إثبات تلك القضايا.الفرق بين القضية الأولية والقضية الاستقرائيةهنا لابد من الإشارة الى الفروق بين القضايا الأولية والقضايا الاستقرائية دفعا لأي شبهة ولبس قد يضبب على القارئ الكريم . وقبل ذلك نبين مالمراد من الاولي اوالقبلي؟إن مفهوم البديهي, القبلي, الأولي طرح في العلوم التي سبقت الفلسفة فقد طرح في الرياضيات حتى أضحت فكرة أن هناك بديهيات تقوم عليها المعرفة فكرة مسلمة من عصر اليونان الى نشوء التجريبية حيث طرحت القصة بشكل آخر وزعموا أن التجربة هي الأساس العام الوحيد الذي يمون الإنسان بكل ألوان المعرفة, بل أن كل القضايا الرياضية التي مهما بلغت من درجات التأصل في النفس البشرية ترجع – بالتحليل – الى التجربة التي عاشها الإنسان على مر الزمن[32] أي أن هذه القضايا تصدق لا لأنها تخبر عن شيء, و أنما تصدق لأن إنكارها يستلزم التناقض, فموضوع هذه القضايا داخل في محمولها, فعند تحليل أي قضية رياضية مهما بلغت درجة تأصلها كـ 1+1=2 لا تخبرك عن شيء لأن 2 هي جمع واحدين. سيأتي تقريب ذلك في البحوث القادمة.يعرف أرسطو القبلي بأنه: صفة الحكم الذي يصدر عن العلم بعلة الشيء من حيث أن العلة متقدمة بالطبع على المعلول[33]. أرسطو لم يفرق تفرقة حاسمة بين علاقة العلة بالمعلول وبين علاقة المقدمة المنطقية بتاليها الذي يلزم عنها, وكان الرأي هو أن البراهين القبلية تزودنا بمعرفة علمية يقينية في مقابل الاعتقاد الاحتمالي[34].ومنذ القرن السابع عشر, أخذت كلمة قبلي تعني الكلي, الضروري المستقل تماما عن الخبرة, كما هي الحال عند ديكارت وليبنتز . أما لفظ البعدي, فقد أهمل استعماله واصبحت كلمة (قبلي) تقابل كلمة (تجريبي) أي ما هو متوقف على الخبرة. ثم أصبحت كلمة قبلي عندهم ترادف البديهي و الأولي, لكنها بالاصطلاح الصحيح أعم من البديهي أو الأولي لأنها قبل التجربة سواء كان بديهيا عقليا أوليا أو نظريا لا يعتمد الخبرة والتجربة كما في الهندسة والرياضيات.كلامنا يقع في الأولي والبديهي ونستبعد القبلي بمفهومه العام, ونقاشنا في الأدلة التي هي قبل أي معرفة استدلالية سواء كانت هذه المعرفة معرفة مستندة إلى البرهان المجرد أو إلى الحس والتجربة, أي المراد من البديهي أو الأولي هنا ما يقع في مقابل النظري كما في مصطلح المناطقة, ما يكون أمرا مدركا إدراكا مباشرا ولا يمكن نقضه ولا تأييده ببرهان؛ لان كل البراهين المفروض أن تعتمد عليه.طرح السيد الشهيد (قده) علامات فارقة بين القضية الأولية[35] والقضية الاستقرائية, ومن خلال هذه العلامات نستطيع أن ندلل على الحكم البديهي, وأورد سيدنا الأستاذ إشكالا أو أكثر على كل واحدة من هذه العلامات:1- أي قضية تزداد وضوحا و تترسخ أكثر فأكثر عند الحصول على شواهد وأمثلة جديدة, تعتبر قضية استقرائية. وأي قضية لا يعززها الحصول على الشواهد وأمثلة إضافية وتتمتع بدرجة من الوضوح لا تزداد كلما ازدادت الشواهد و الأمثلة, تعتبر قضية أولية قبلية. هذا يعني أن وضوحها ذاتي ومنفصل عن الاستقراء.هذا وأورد السيد الأستاذ إشكالا مفاده: لو أخذنا مبدأ العلية الذي تعرض للشك عند قطاعات واسعة من الناس وهو عند السيد الشهيد(قده) مبدأ عقلي أولي بديهي سابق للتجربة والاستقراء .حيث يقول السيد الشهيد: إن زيادة الشواهد التجريبية يؤدي الى ارتفاع القيمة الاحتمالية لمبدأ العلية في مفهومها العقلي, وهذا يعني إمكان الاستغناء عن مبدأ العلية معرفيا وإثباته تجريبيا, فما قيمة هذا الإثبات؟أليس قيمة هذا الإثبات ترسيخ مبدأ العلية والاعتقاد بالقانون العلمي؟ فالاعتقاد بالقانون العلمي دعامته اعتمادنا على حساب الاحتمال الرياضي وعلى أداة نظرية وهي العلم الإجمالي في تفسير الاحتمال ومصادراته, فالسيد الشهيد أضاف بديهيات لتلك البديهيات التي جاءت في حساب الاحتمال من حكومة وغيرها[36]وبالتالي اذا كان هذا سير الدليل الاستقرائي, وهذا المبدأ مبدأً قبليا فهل الشواهد الاستقرائية تعززه أم لا؟إن كانت لا تعززه لأنه مبدأ قبلي كما هو المعيار المطروح, عندها يكون الدليل الاستقرائي لا محل له من الإعراب, وان كانت تعززه -كما هو المطلوب في كل بحث الأسس المنطقية للاستقراء- يؤدي هذا الى أن المعيار ليس معياراً منطقياً للتميز بين القضية الأولية والقضية الاستقرائية.إضافة إلى هذا الإشكال إشكال السيد الشهيد حيث يقول: هذه العلامة الفارقة لا يمكن استخدامها والاستفادة منها بسهولة في التمييز بين القضية القبلية والقضية الاستقرائية؛ لأنّ كثيراً من القضايا الاستقرائية التي تملك عدداً هائلاً من الشواهد والأمثلة في حياة الإنسان، تصل ـ نتيجة لذلك ـ إلى درجة من الوضوح لا تسمح عادة بأن ندرك أيّ نموّ لها على أساس شواهد إضافية.فالقضية القائلة: «كلّ إنسان فصلت رقبته عن جسده يموت»، و «كلّ نار حارّة» استقرائية، ولكنّها بدرجة من الوضوح ـ نتيجة لامتداد الاستقراء الذي يدعمها، واستيعابه عدداً هائلاً من الشواهد والحالات المؤيّدة ـ حتّى ليبدو أنّ وضوحها لا مجال فيه للازدياد. فنحن ـ عادةً ـ لا نتعامل مع القضايا الاستقرائية التي هي من هذا النوع في بدايات تكوّنها الذهني، لكي نستطيع أن ندرك بسهولة مدى ارتباطها بالأمثلة والشواهد، وإنّما نواجه هذه القضايا ـ عادةً ـ بعد أن تكون قد أحرزت درجة كبيرة جدّاً من الوضوح على أساس الأمثلة والشواهد. وفي هذه المرحلة قد لا نلاحظ فرقاً بينها وبين أيّ قضيّة قبلية في عدم ازدياد وضوحها
بازدياد الأمثلة والشواهد[37].2- شعور الإنسان بإمكان التنازل عن الاعتقاد المطلق بقضية ما إذا توفّرت بعض القرائن ضدّها: فإذا تحدّث عدد كبير من الثقات عن شخص معيّن رأوا بأنفسهم أنّ رقبته فصلت عن جسده فلم يمت، بل ظلّ يتكلّم كما كان يتلكّم قبل ذلك، فمن المحتمل أن توجد شهادات هؤلاء الثقات احتمالاً ـ ولو ضئيلاً لصدق هذه الحادثة بصورة استثنائية. ولكنّنا مهما نفترض من شهادات ثقات بأنّهم رأوا بأعينهم شيئاً موجوداً ومعدوماً في نفس الوقت، لا نجد في أنفسنا أي استعداد لتقبّل احتمال ذلك.يشكل السيد الأستاذ: إن مثال كل انسان فصل رأسه عن الجسد يموت شدة التصديق به نسبية مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه الانسان, فالذي يعيش في مجتمع تجريبي مادي يعتبر من يتكلم بعد فصل رأسه خرافة ولا يمكن أن يتنازل عن هذه القاعدة الراسخة لديه. أما المثال الثاني من شهادة الثقات أن شيئا معدوما موجودا بنفس الوقت محال هذا صحيح, لأنه مبدأ استحالة اجتماع النقيضين المسلم على قبليته, لكن لو جئنا لمبدأ العلية أي وجدت حادثة معينة ولم يلحقها معلول كما يؤمن الغزالي بهذه الفكرة, ففي كتابه تهافت الفلاسفة جعل مسألة السببية في المرتبة السابعة عشرة وعلى الخلاف من مناقشة الغزالي لأراء الفلاسفة أولا ثم طرح رأيه بدأ هنا بطرح رأيه فهو يرى: ((إن الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وبين ما يعتقد مسببا ليس ضروريا.. بل إن ذلك الاقتران تابع لما سبق في تقدير الله، يخلق الأمرين على التساوق لا لكونه ضروريا في نفسه, غير قابل للفوت, بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل, وخلق الموت دون جز الرقبة...))[38].كما هلل البعض بذلك في تفسير نار إبراهيم. هذه المعايير يجب أن تشمل كل الحالات لا أنها تقبل في مكان ولا تقبل في آخر, لان كلامنا عن البديهية التي نريد تميزها عن القضية الاستقرائية على أساس معايير منضبطة ومنطقية.3- أنّ القضية الاستقرائية مهما كان الاستقراء الذي يدعمها شاملاً، لا يمكن أن تكون قضية مطلقة صادقة على أيّ عالم من العوالم المفترضة، وإنّما يختصّ صدقها بالعالم الخارجي المعاش الذي وقع الاستقراء فيه، بينما تتمتّع القضية الأوّلية القبلية بصدق مطلق لا يختصّ بهذا العالم، بل يمتدّ إلى أيّ عالم يمكن افتراضه.فالقضية القائلة: «كلّ نار حارّة» قضية استقرائية؛ لأنّها رغم وضوح صدقها على حقائق هذا العالم الخارجي المعاش، ليس من الضروري أن تكون صادقة على أيّ عالم آخر مفترض، بل بالإمكان أن نفترض عالماً توجد فيه نيران غير حارّة، ولا يوجد في نفوسنا رفض لهذا الافتراض. وأمّا القضية القائلة: إنّ النقيضين لا يجتمعان»، أي أنّ النفي والإثبات لا يصدقان معاً، فهي قضية تصدق على أيّ عالم نفترضه، وليس بإمكاننا أن نحتمل وجود عالم يتعايش فيه النفي والإثبات. وهذا يعني أنّها قضية منفصلة عن الاستقراء؛ لأنّ الاستقراء لا يمكن أن يعطي هذا التعميم في الصدق، وإنّما يبرهن على الصدق في إطار العالم الذي يمارس الاستقراء فيه.يشكل السيد الأستاذ أيضا على مثال استحالة اجتماع النقيضين لأنه بديهية مسلم بقبليتها تماما, وبالتالي يطرح إشكالان:الاول: إن بديهيات اقليدس الرياضية المسلم على قبليتها مشروطة وغير مطلقة تصدق على المكان المسطح ولا تصدق على المكان الدائري أو المربع[39].الثاني: أن كثير من القضايا الاستقرائية جراء ترسخها العميق في النفس البشرية يكون من الصعب جدا التنازل عنها, كحرارة نار يوم القيامة وأنها تحرق لشدة ترسخ هذه العلاقة بين النار والحرارة في النفس البشرية, وان كان هذا المثال معزز بشواهد من القرآن والسنة الشريفة, يبقى ان الإيمان بحرارة نار الآخرة مسألة تدور مدار الصدق وعدمه باليوم الاخر وبالثواب والعقاب, فمن المستحيل أن يصدق شخصا لايؤمن باليوم الاخر بنار اصلا, لكنه لو آمن سيؤمن انها تحرق بغض النظر عن الشواهد لشدة ترسخ العلاقة بين النار والإحراق. لهذا عندما نقول بديهية يجب أن تكون بديهية بالإدراك العام لا بالإدراك الخاص, أي يجب أن يدركها كل العقلاء لا الفلاسفة وحدهم أو الحكماء أو طبقة دون أخرى. لهذا نرى أن بعض القضايا الاستقرائية يعممها البشر على كل العوالم التي يعتقد بها.كما أن التصديق والبرهنة على الحكم البديهي تتعذر لأنه لا يوجد حكم أكثر وضوحا منه يمكن أن نجعله معيارا في تصديقه وإثباته, نعم, يمكن نقض الحكم البديهي إذا كان حكما مدعى, لهذا يجب توفر شرطين في الحكم البديهي:أ- أن لا يتضمن تناقضا ويكون منسجما مع نفسه.ب- أن لا يوجد دليل على نفي الحكم البديهي.ثم أن السيد الأستاذ لا يرى فارقا ملحوظا بين هذه العلامة وبين العلامة السابقة.المبحث السادسالمعالجة الأرسطية لمشكلة الاستقراءإن مشكلة الدور التي تعرض لها الاستقراء في المنطق الأرسطي والتي أعاد صياغتها هيوم مطروحة قبل هيوم, وقد حاول المنطق الأرسطي الإجابة عنها, إلا أن المشكلة بقيت قائمة حتى وصول التفسير الاحتمالي للاستقراء الذي استطاع ان يبرر منطقيا مشكلة الطفرة في الاستقراء الناقص.طرح التفكير الفلسفي أمام الاستدلال الذي يواجه الإنسان العادي([40]) عدة أسئلة منها:من قال ان لكل ظاهرة سبب ؟ إذ من الممكن ان تحدث صدفة .وعليه, فالمهمة الأولى أمام الاستقراء أن يثبت أن لكل ظاهرة طبيعية سبب, (السببية العامة), وبالتالي فان الصدفة المطلقة مستحيلة في عالم الوجود . وبعد ان يثبت ان لكل ظاهرة طبيعية سبب لابد لمبدأ الاستقراء ان يفسر سبب تمدد الحديد هو الحرارة لا سبب آخر وان كان خفيا –مثلا- . ثم عليه أن يثبت استمرار علية الحرارة للحديد, وبعبارة أخرى: من قال إن علة(أ) لــ (ب) سوف تستمر في كل الحالات والظروف؟ ومن قال إن الطبيعة تسير على نظام ونسق واحد؟ فعلى المبدأ الاستقرائي الأرسطي أن يثبت فعالية قاعدة (الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد) .ومن اجل أن نصل إلى التعميم في قانون الاستقراء الكلي لابد أن تجيب المدرسة الأرسطية على هذه الأسئلة. والمدرسة الأرسطية ووفقا للمذهب العقلي تفرض أن مبدأ السببية مبدأ عقلي بديهي وبالتالي أجابت على الإشكالية الأولى, وترى ان القاعدة القائلة: (ان حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد) من فروع قانون السببية ومبدأ العلية.ويجيب المنطق الأرسطي على سؤال ان السبب ليس عامل آخر وإنما الحرارة في مثالنا السابق بطرحه مبدأ يدعي بداهته وهو القانون القائل: (الاتفاق لا يكون دائميا ولا اكثريا), وعندما نطبق هذا المبدأ البديهي على الاقترانات المتكررة لأي من الظواهر نرى انها تقترن في عالم الطبيعة, فالاقتران ألدائمي أو الاكثري للظواهر المقترنة لا يمكن ان يكون صدفة, فيكون استقرائنا للأمثلة الجزئية صغرى لكبرى تقول: (ان الاتفاق لا يكون دائميا ولا اكثريا) . فيكون شفيع المنطق الأرسطي ومنقذ الدليل الاستقرائي هو هذا المبدأ الذي ادعى المنطق الأرسطي بداهته .الاتفاق في المنطق الأرسطيهنا علينا الرحيل الى لب المعنى الذي يقصده المنطق الأرسطي من (الاتفاق) في المبدأ الذي جعله أساسا لتبرير مشكلة الاستقراء الناقص (( الاتفاق لا يكون دائميا ولا اكثريا ))الاتفاق بمعنى الصدفة, والصدفة تقابل اللزوم, فإذا فهمنا معنى اللزوم فهمنا الصدفة بالمقابلة.واللزوم على نحوين :اللزوم المنطقي :لون من الارتباط بين قضيتين أو مجموعتين من القضايا يجعل أي افتراض بينهما يستبطن تناقضا كاللزوم بين أضلاع المثلث والمثلث . فافتراض وجود مثلث من دون وجود أضلاعه يستلزم التناقض .اللزوم الواقعي : وهو عبارة عن علاقة السببية القائمة بين شيئين كالنار والحرارة , وهذه السببية لا تستبطن أي لزوم منطقي بالمعنى المتقدم لان افتراض ان النار ليست حارة لا يستبطن بذاته تناقضا.والصدفة تقابل اللزوم سواء كان منطقيا أو واقعيا , وهي قسمان :الصدفة المطلقة : وهي ان يوجد شيء من دون سبب إطلاقا , وهي مستحيلة من وجهة نظر المعتقد بمبدأ السببية من كونه مبدأ عقلي قبلي , لان الصدفة المطلقة تعارض مبدأ السببية .الصدفة النسبية : وهي وجود حادثة معينة نتيجة توفر سببها ويتفق اقترانها بحادثة أخرى صدفة, كما لو خرج زيد من المسجد ودخل عقيل إلى نفس المسجد للصلاة والتقيا عند الباب صدفة فوجودهما في تلك اللحظة يعتبر صدفة وهي هنا نسبية لان كلا من خروج زيد و دخول عقيل إلى المسجد بسبب خاص .ومن هنا نعرف أن الاقتران الحاصل بين حادثتين قد يكون مجرد صدفة ونطلق عليها اسم الصدفة النسبية , وقد يكون ناتجا عن رابطة سببية بين الحادثتين .فالاقتران الناتج عن رابطة سببية مطرد دائما فمتى يحدث انخفاض في درجة الحرارة إلى الصفر اقترن ذلك بانجماد الماء, وأما الاقتران الذي يتمثل بالصدفة النسبية فهو قد يحدث لكنه لا يطرد ولا يتكرر باستمرار .ومراد المنطق الأرسطي من الاتفاق في قوله أن(لا يكون دائميا ولا اكثريا)؛ هو الصدفة النسبية .المبحث السابعنقد المعالجة الأرسطية لمشكلة الاستقراء الناقصعند تعرضنا للنقد الموجه إلى المعالجة الأرسطية للاستقراء, سنمر على بعض أهم الانتقادات والدراسات الغربية في هذا الصدد. ففرانسيس بيكون يشكل انعطافة في تاريخ الفلسفة والمنطق, كما عُرف عن بيكون نقده اللاذع للمنطق الارسطي, حتى انه لم يبق له حسنة تذكر. وعاب على ارسطو قياسه مؤكدا ان الطريقة الاستنباطية بعامة ليست طريقا يمكن ان يستعين به العلم على اكتشاف اسرار الطبيعة.وكان يعتقد ان المشكلة كل المشكلة في طرق الاستنباط القديمة, والتي لا تؤدي الى حقائق جديدة, فالنتيجة متضمنة في المقدمات, فثار على التراث الافلاطوني والارسطي.كما عاب على ارسطو نظريته في الاستقراء, فهو لاحظ ان الاستقراء الارسطي يقوم على اساس ما يسميه (الاستقراء بالعد البسيط), وعلى اساس هذا الفهم هاجم الاستقراء الارسطي, وانقض عليه, واقترح طريقة جديدة لوضع أفضل للاستقراء؛ (إن النقيصة الرئيسية في المنهج الأرسطي - فيما رأى بيكون - انه اعتمد في الوصول الى قوانين الطبيعة على طريقة الاحصاء البسيط للامثلة الجزئية, اي انه اكتفى بذكر عدد من الامثلة الجزئية التي تؤيد القانون الذي يصل اليه, فلا هي اتسعت حتى شملت مجال البحث كله, ولا هي دلت على موضع الضرورة التي تجعل من القانون الطبيعي حكما عاما ينطبق في كل الظروف)([41]). واعتقد بيكون انه وجد الطريقة الصحيحة في الصيغة التي وضعها للاستقراء, ويقصد به (النظرية العلمية), اي منهج استخراج القاعدة العامة, او القانون العلمي من مفردات الوقائع استنادا الى الملاحظة والتجربة.كما ان بيكون لاحظ ان اكتشاف قوانين العلم لايتم جراء حشد الامثلة الجزئية ومجرد احصاء الحالات الايجابية التي تقع فيها الظاهرة, اما يمثل المرحلة الاولى من مراحل سير المنهج الاستقرائي .ويرى بيكون اننا كيف نعرف علة ما ولتكن الحرارة مثلا لا بد ان نضع خطوات, فالخطوة الاولى ان نضع قائمة لحضور جميع الامثلة المعروفة التي توجد توجد فيها ظاهرة الحرارة . الخطوة الثانية: نضع قائمة للغياب ندرج فيها الحالات الجزئية ما يقابل تلك الحالات التي وضعناها في قائمة الحضور, لكن تختلف عليها من حيث ان الحرارة معدومة فيها. اما الخطوة الثالثة : نضع قائمة للحالات التي تكون درجتها متفاوتة. اي التي توجد فيها الحرارة على درجات متفاوتة. ثم بفحص القوائم والخطوات قد نستطيع ان نجد طبيعة مولدة تتمشى مع النتيجة او الطبيعة المتولدة حضورا او غيابا وتفاوتا في الدرجة, فيمكننا حينئذ ان نضع تفسيرا او (نتيجة مبدئية) فنرى مثلا ان الحركة هي علة الحرارة او (صورتها)([42]).يتضح جليا ان (منهج العلم) لدى بيكون يفترض سلفا (مبدأ العلية) كمبدأ كلي عام يحكم الطبيعة بالضرورة([43]). ولعل اهم نقد يوجه الى الاستقراء البيكوني هو عدم امكانية حصر العلل التي تخلق الظاهرة حصرا يقينيا شاملا, ومن ثم لا يمكن ان نرتفع بالاستنتاج الاستقرائي الى مستوى القانون الضروري العام, كما اراد بيكون, بل غاية ما توفره لنا خطوات البحث الاستقرائي هو رفع قيمة احتمال التعميم([44]). وكذلك سار (جون ستيوارت مل) على هدى بيكون, الا انه وضع طرائق اكثر دقة للبحث عن العلة, وافترض العلية مبدأ للاستقراء, ولعله لامس تفسير هيوم للعلية .نقد كارل بوبرأما كارل بوبر فقد اعترض على الاستقراء واعتبره نوع من الخرافة([45]), وجعل طريق المعرفة هو التخمين([46]), ولابد ان نسلط الضوء على رأي بوبر وما يتفق به مع هيوم وما يخالفه :انصب نقده على أسس الاستقراء التي تمثلت في مبدأي العلية (Principle of Causality) واطراد الحوادث في الطبيعة. ومرّ نقد هيوم لمبدأ العلية من أنه ليس فطرياً، ولا يتسم بكونه ضرورياً من الناحية المنطقية([47])، ولا يملك صفتي الكلية واليقين، وقد أيده فلاسفة العلم المعاصرون له والعلماء، إذ يرون أن فكرة العلية لا تتفق وما يحدث في العالم الطبيعي، وقد ذكرنا أن هيوم لم ينكر العلية كمبدأ في الطبيعة، لكنه أنكر تفسير الفلاسفة العقليين للعلية، وقولهم إن هذا التفسير هو التفسير الصحيح اعتماداً على ما يذهب إليه بشأن العلية من أنها تتطلب السبق والجوار المكاني والضروري([48]).تأثر بوبر بهيوم، لكنه لم يوافقه على كل أفكاره، وتمثل تأثره في تأييد هيوم في ما ذهب إليه من أن الاستقراء يثير إشكالات منطقية وسيكولوجية.- موقف بوبر النقدي للاستقراءتمثل موقف بوبر النقدي للاستقراء في جانبين هامين هما:أ- المشكلة المنطقية للإستقراء.ب- الدور الحقيقي للملاحظة.إذا كان المذهب الحسي العام يؤكد أهمية دور الملاحظة في تثبيت الاعتقاد، اعتماداً على مبدأ اطراد الحوادث في الطبيعة، وذلك خلال الملاحظات التي تمت في الماضي وثبت تكرارها، الأمر الذي جعل فكرة الأطراد نفسها قبلة للتبرير، فإن كارل بوبر يرفض الفكرتين معاً، لكنه يجعل دور الملاحظة والتجربة مقتصراً على الاختبار الذي يؤدي إلى التكذيب[49].جـ- التشكيك بشأن تبرير الاعتقاد.يتفق بوبر مع هيوم في هذه المسألة، إذا يتساءل: هل يمكن استنتاج حالات أو نتائج متكررة قامت على تلك الخبرة؟تأتي إجابة هيوم عن هذا السؤال بالنفي، ويؤيده بوبر في هذا.د- التفريق بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي.يتفق بوبر بشأن المشكلة المنطقية للاستقراء أيضاً أن لدينا ألفاضاً مثل: «اعتقاد» (Believe) أو «تبرير اعتقاد» (Believe-Justify) لا مجال لهما عند النظر في المشكلات المنطقية، إذ إنهما حدود ذاتية([50])(Subjective Terms)، وينبغي أن تستبدل بحدود موضوعية (Objective Terms). الاعتقاد: Believe , نظرية تفسيرية: Explantory Theory . انطباع : Impression، قضية ملاحظة: Observation Statement . انطباع: Impression أو قضية اختبار: Or Test Statement . وتبرير اعتقاد : Justify-Believe : تبرير هو القول بأن نظرية ما سبقته : The Justifying of Saying Pre-one Theory.
- هل هناك مشكلة للاستقراء؟يرى بوبر أن من يتحدثون عن مشكلة الاستقراء يخطئون، إذ إن هذا الكلام غير صحيح وغير موضوعي، إذ إنه لا مشكلة للاستقراء كما أن التبرير لا يعتمد على الخبرة، لكن بوبر يقسم مشكلة الاستقراء إلى شقين منطقي وسيكولوجي – وهذا تناقض – وهنا يتساءل بوبر: هل يمكن تبرير القول بأن صدق نظرية كلية تفسيرية يقوم على الخبرة؟ وهل يعتمد افتراض قضية ما على الملاحظة؟ويلاحظ هنا بشأن هذين السؤالين أن بوبر – متبعاً هيوم – يرفض اعتماد التبرير على الخبرة، إذ إنه يمكن لأي عدد ممكن من قضايا الاختبار الصادقة أن يبرر القول بصدق نظرية ما.ذلك لأن الخبرة سواء أكانت متعلقة بالملاحظة أم نتيجة تجربة يمكن اعتبارها قضية جزئية وليست قضية كلية، أي تشير إلى حالة جزئية لا يمكن تعميمها دون سند منطقي. لكن بوبر يعود ليجيب عن السؤالين بالإيجاب اعتماداً على أن افتراض صدق قضايا الاختيار يسمح لنا في بعض الأحيان بتبرير القول بأن إحدى النظريات الكلية التفسيرية نظرية كاذبة، وهو يختلف عن هيوم في هذا الجانب، لكنه يتماشى مع فكرته في التكذيب للقضايا الباطلة بهدف التوصل إلى الصدق. وهذه الفكرة تعد بمثابة المفتاح لفلسفة وأفكار كارل بوبر بشأن العلم ومنهجه، وهذه الفكرة من بوبر تفترض بصفة أساسية وجود مجموعة من النظريات المتكافئة، علينا أن نختار منها، وهذا الاختيار له أسس معينة. ومن ثم طرح بوبر سؤالاً ثالثاً إذ يقول: «هل يمكن تبرير عملية المفاضلة بين النظريات الكلية المتناقضة اعتماداً على أساس احتمال رفض قضايا الاختبار التي تعتمد عليها بعض النظريات؟). ولأننا نبحث عن نظرية صادقة فإننا سوف نفضل النظرية التي لم تكذب بعد، أي التي لم يثبت كذبها إلى الآن.هـ - مسألة الحصول على معرفة علمية دون استخدام الاستقراء.يرى بوبر إمكانية الحصول على معرفة علمية تجريبية دون استخدام خطوات استقرائية، حيث يمكننا الاختيار بين النظريات العلمية المتناقضة دون الاستعانة بالاستقراء.لكن أليس هذا استعانة بالاستقراء من خلال إحدى خطواته، وهي منهج الرفض والاستبعاد لدى بيكون، وطريقة التحقق من الفروض لدى جون ستيوارت ميل؟([51]).لكن الاستغناء عن الاستقراء بهذه الطريقة - الاختبار - أو التكذيب لتبقى القضية الصادقة هو منهج مزدوج، تصديق وتكذيب باستخدام الواقع أو الاتساق الداخلي- وهذا ما يمسى بالمشكلة المنطقية للاستقراء. ويلاحظ أيضاً أن بوبر يتردد بين وجود مشكلة للاستقراء، وعدم وجودها.2- المشكلة السيكولوجية للاستقراءأ- يبدأ بوبر بعرض المشكلة السيكولوجية للاستقراء بطرح سؤال هيوم:
لماذا يتوقع المرء أو يعتقد أن الحالات التي لم تحدث بعد سوف تتطابق مع الحالات السابقة؟ أو لماذا تتمتع التوقعات بقناعة كبيرة؟ وهذا التساؤل يذكرنا بقضايا المستقبلات الممكنة في منطق القضايا عند أرسطو، والذي أحال الصدق والكذب فيها على «التحصيل» أي على الوجود لها مستقبلاً أو عدم الوجود([52]).ومنذ وقت مبكر نسبياً وفكرة العادة أو التعود على رؤية الأحداث تجعل الناس يتوقعون حدوثها في المستقبل، وهذا ما حاول هيوم أن يثبته، لكن بوبر رفض هذه الفكرة، وأيد هيوم في ما ذهب إليه من أن الاستقراء بالتكرار لا وجود له في المنطق. ويرى بوبر أنه كان ينبغي على هيوم تطبيق ذلك في مجال علم النفس، وذلك طبقاً لمبدأ التحويل (Principle of Transformation) وهو أحد مبادئ بوبر، وينص على أن ما يصدق في المنطق يصدق في علم النفس (What is True in Logic is True in Psychology)ويرى بوبر أنه بالنسبة إلى هيوم لو قام بتطبيق هذا المبدأ لأمكنه تخليص فلسفته من العناصر اللاعقلانية([53]) - أي النفسية كما فعل بوبر نفسه - عندما ركز على تحليل فكرة الاعتقاد وإظهار تهافتها.ب- الاستقراء خرافة.يرى بوبر أن الاستقراء بمعنى صياغة اعتقاد ما عن طريق التكرار أو العادة عبارة عن محض خرافة([54]). فبتحليل مصدر الاعتقاد يرى بوبر أنه تبين له أن الحيوانات والأطفال والشباب لديهم حاجة ماسة للاطراد، ويبحثون بجد عن الاطرادات، ويشعرون بحالات عقلية من اليأس والحزن، وربما الجنون بتحطيم هذه الاطرادات المفترضة من جانبهم. ويرى بوبر أن هذه الاطرادات التي نحاول أن نفرضها على العالم هي اطرادات قبلية (Prior)، كما أن محاولة فرضها على الواقع يعد أمراً فطرياً (Inborn) يقوم على الدوافع والغرائز. فالناس من الناحية النفسية في حاجة إلى عالم يطابق توقعاتهم، وعلى ذلك انتهى بوبر إلى أنه لا مجال لنشأة اعتقاد، ولا مجال لدور يلعبه التكرار([55])، فقد تنشأ التوقعات دون تكرارات، وقد تكون قبل التكرار إن وجد، كما هو واضح في تاريخ العلم.ج- رفض نظرية هيوم في الاستقراءلقد انتهى كارل بوبر إلى أن نظرية هيوم الاستقرائية في صياغة الاعتقادات بناءً على التكرار لا يمكن أن تكون صادقة. أما عن سبب اهتمام الفلاسفة بالاعتقاد، فإنما ينتج عن الفلسفة الخاطئة التي يسميها بوبر بالمذهب الاستقرائي (Intuitivism) ومصدر هذا كما يسميه بوبر أن الفلاسفة يقصدون بهذا الاعتقاد الراسخ، وبوبر يهاجم كل ما هو راسخ وليس له أساس. وهو هنا يتشابه مع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت Descartes الذي أخذ بمنهج الشك المنهجي([56])، كما أن الاعتقاد القوي أو الشعور باليقين الذي حاول هيوم إقامته إنما هو حل براغماتي (Pragmatism) يرتبط في نظر بوبر بمسألة الاختيار بين البدائل، وذلك مثل المسألة: «ستشرق الشمس غداً» أو «لن تشرق الشمس غداً» إذ يرتبطان بالميل الغريزي وتوقعات الاطراد.فبوبر يعتني بصفة أساسية بالأفكار والنظريات دون البحث في ضرورة الاعتقاد بها، لأنه يأخذ بمنهج البحث النقدي (The Method of Critical Discussion).د- رفض مبدأ الاستقراءإذا كان الاستقراء في مرحلته التقليدية يقوم على مبدأ الاطراد فإن بوبر ينفيه مهاجماً إياه من ناحيتين، هما ناحية أصل هذا المبدأ، وناحية فائدته. وتفصيل ذلك كما يلي:- ناحية أصل مبدأ الاطراديرى أن هذا المبدأ ليس حقيقة منطقية إذ يقول: «لو أن مبدأ الاستقراء» الاطراد «مبدأ منطقي خالص» (Pure Logical Principle) فلن يكون هناك مشكلة للاستقراء، لأن الاستدلال الاستقرائي يؤخذ عندئذ على أنه مبدأ منطقي تماماً مثل المنطق الاستنباطي. أما والأمر غير ذلك فإن هذا المبدأ يصبح قضية تركيبية لا يوقعنا نفيها في التناقض.أما إذا نظرنا إلى الخبرة كمصدر لصدقه فسوف نواجه مشكلات أكثر حدة أهمها وأبسطها: أن محاولة البرهنة عليها سوف تقوم على استدلالات استقرائية، وإذا حاولنا تبريرها سنفترض أن لها مبدأ استقرائياً آخر، وهكذا يكون لدينا حالة من التراجع اللانهائي، فالاستقراء كمبدأ منطقي مستقل يعد عاجزاً, إما لكونه مستدلاً من الخبرة أو من مبادئ منطقية أخرى. ويرى بوبر أن هذه المشكلة تنشأ في ذهن القائلين بها نتيجة اعتقادهم أنه بدون مبدأ الاستقراء يستحيل العلم، في حين يؤكد بوبر أنه ليس هناك مشكلة, لأن الاستقراء مجرد خرافة من صنعنا([57]).رفض الاستقراء من ناحية فائدته وبخصوص من يزعم فائدة الاستقراء من حيث أهميته للمنهج العلمي، ومن حيث إن تجريد العلم منه يجعل العلم يفتقر إلى أهم أدواته التي توفر لنا صدق أو احتمال صدق النظريات العلمية، يرى بوبر أن هذا الزعم يأتي من الآمال المطلوبة والأمنيات المرجوة، والتي انعكست صياغتها على طبيعة الاستقراء ذاته، فجاءت طبيعته بحسب ما نتمناه، وليس بحسب ما هو واقع بالفعل.وتكمن المشكلة الاستقرائية عند الاستقرائيين التقليديين ومن تابعهم- هيوم وراسل[58] - لدى بوبر في سوء الصياغة، والتي لا تفترض أن البحث عن المعرفة مكلل بالنجاح فقط، بل تفترض أيضاً أنه يجب أن نكون قادرين على تفسير سبب النجاح. وبحسب بوبر أن النجاح في العلم يعني التقدم العلمي، أما أن يقترن النجاح بالتفسير له فهذا أمر بعيد المنال، لأن الاستشهاد بسلسلة لا تنتهي من الحوادث غير المحتملة لا يعد تفسيراً. وعلى ذلك يتضح لنا موقف كارل بوبر من الاستقراء في جانبيه: المنهج والمبدأ، وهو الرفض التام لهما معاً، وذلك لأنهما لا يتفقان والطريقة التي يتقدم بها العالم (The Advancement of the World) الآن كما يعلن بوبر أنه لا يهدف إلى تقديم حل لمشكلة الاستقراء، وإنما يهدف إلى تهافت الاستقراء كمعيار للتمييز بين النظريات العلمية، ليعلن عن الحاجة الملحة لمنهج يختلف عن الاستقراء ليعبر بصدق عن ما يحدث في النظريات العلمية المعاصرة، كما يتصور هو على الأقل، وهذا ما حاول بوبر المجيء به.ملاحظات:- حاول بوبر ان يقدم تميزا تميزا حاسما بين القضايا العلمية والقضايا الغير علمية ولما كان المعيار السائد للتميز هو الاستقراء, وحيث في الاستقراء فضيحة رأى بوبر لابد من تحليل هذه المشكلة والالتفاف عليها.- يتسائل بوبر: لماذا يجب قبول المبدأ الاستقرائي, فأن رشنباخ يقول: - هذا المبدأ- يحدد صدق النظريات العلمية, وحذفه من العلم لن يعني أقل من تجريد العلم من قوة تقرير صدق أو كذب نظرياته. ومن الواضح أن العلم بدون هذا المبدأ سوف لن يكون لديه الحق في تميز نظرياته من خيال الشعراء الخلاق وابداع عقولهم.)[59]سوف أبقى أحتج بأن مبدأ الاستقراء زائد عن الحد, وانه يفضي حتما الى المغالطات المنطقية.- اذا حاولنا أن نعتبر صدق المبدأ الاستقرائي على أنه معلوم من الخبرة, فأن نفس المشكلات التي تصاحب إدخاله سوف تنشأ مرة أخرى, فأنه كي نبرر هذا المبدأ يتعين علينا ان نستخدم الاستدلالات الاستقرائية, ولكي نبرر تلك الاستدلالات لابد أن نفترض مبدءاً استقرائيا من مستوى أعلى وهكذا فالتسلسل الذي يحطم دعامة الخبرة.- حاول كانط أن يجد مخرجا من هذه الصعوبة بالنظر الى الاستقراء على أنه ((صحيح قبلي)), وهذا هو ما صاغه بعنوان مبدأ العلية الكلي, لكن محاولته لم تنجح في تزويدنا بتبرير قبلي للقضايا التأليفية كما يرى بوبر, فأن الصعوبات المتعددة للمنطق الاستقرائي لايمكن تخطيها.- لا يمكن الستر على فضيحة المبدأ الاستقرائي حتى لو كان غطائنا (الاحتمال)؛ لأنه اذا نسبت درجة معينة من الاحتمال للقضايا المستندة الى الاستدلال الاستقرائي, فإنه لابد من تبريرها باستحداث مبدأ جديد للاستقراء, معدل على نحو ملائم, وهذا المبدأ الجديد لابد من تبريره أما على حساب الخبرة التي اوقعتنا في التسلسل كما مر, أو على حساب المذهب القبلي.- لابد من التميز والفصل بين خطين رئيسيين هما السبب وراء كل المشكلات الاستقرائية هما: الخط الابستمولوجي, والخط السيكولوجي. فان خلطهما يسبب المشاكل في عالم منطق المعرفة وعالم سيكولوجية المعرفة.- إشكالية التمييز, مصطلح اطلقه بوبر على مشكلة العثور على مقياس يضع لنا العلوم التجريبية في يد, وفي الاخرى يضع لنا الرياضات والمنطق الى جانب الانساق الميتافيزيقية, ثم فالاستقراء عاجز على ان يزودنا بمعيار ملائم للتمييز.- رفض بوبر كل اشكال الاستقراء, الشكل الاول: اليقين المنطقي المشروط الذي جعل الاستقراء دليلا ينتقل منه الذهن الى العام عبر الخاص, فتمنحه اليقين او الاحتمال, كما هو الحال عند ارسطو ومدرسته, والشكل الثاني: اليقين النفسي والاعتقاد البحت, كما هو الحال عند (دافيد هيوم), والشكل الثالث: هو اليقين التجريبي كما هو عند (بيكون) و (مل), والشكل الرابع: هو ان كان احتمالا منطقيا او تجريبيا كما هو حال المدرسة الوضعية.- ركز بوبر سهامه على التفسير الكلاسيكي للاحتمال الذي يعد الاحتمال درجة من درجات التصديق أو الاعتقاد العقلي, معتبرا هذا التفسير سقوط في قعر السيكولوجية. فالاستقراء لا يفضي الى رفع درجة احتمال الحوادث, ومن ثم فهو اسطورة لاغير . كيف؟ وما ذلك إلا أن قراءة عالم الطبيعة رهن الفروض والحدوس, فالكشف عن الطبيعة يبدأ من الحدس والتخمين, فيطرح العلماء فروضهم ثم يقيسوها قياسا رياضيا ليجدوا انسجامها الذاتي وعدم تناقضها, بعد ذلك يعودون الى التجربة ليختبروا فروضهم, ويروا مدى جدارتها وصدقها, ومهما راكموا من التجارب, فتجاربهم لا تصل بهم الى يقين بالفرض, ولا ترفع من درجة احتمال الفرض, إنما الفرضية الني تصمد أمام التجارب المتكررة تبقى الفرضية المفضلة ! ولسيدنا الاستاذ مناجزة علمية مع فرض بوبر هذا[60]اعتراضات (السيد الشهيد) على المعالجة الارسطية للاستقراء الناقصذهب السيد الشهيد الى أن المبدأ الذي ارتكز عليه المنطق الأرسطي معتقدا انه مبدأً عقليا يصح الاعتماد عليه, انما هو مبدأ تجريبي. وذكر السيد الشهيد جملة اعتراضات كما يأتي وعلى ترتيب سيدنا الأستاذ:الاعتراض السابع :هذا الاعتراض يتكون من مقدمتين نسارع للدخول الى حريمهما :المقدمة الأولى: اذا تيقنا بقضية برهانية فلازمها العقلي لابد ان يكون متيقن به فلوازم القضايا العقلية على نفس الدرجة من اليقين من القضية نفسها .فاذا كانت القضية بديهية فهي من حيث كونها بديهية اقوى من القضايا البرهانية والمقدمة السابقة تشمل كل القضايا البديهية منها او النظريةالمقدمة الثانية: القاعدة الارسطية التي ادعى المنطق الارسطي بداهتها والتي تقول: إن الاتفاق لا يكون ... , أي أن الاتفاق لا يقع على خط طويل من التجارب والاقترانات المتكررة , ولنفترضه (ن) من التجاربأي ان (ن) عدد اذا وصلت اليه التجارب عرفنا هناك علاقة سببية بين الحادثتين المقترنتين , وهذا يعني ان اللازم العقلي لابد ان يكون بديهيا وهو: الاتفاق لا يقع في (ن) .اي لو اتفق ان (ن-1 ) في (أ ب) جاءت صدفة فهذا يعني أنها حتما لا تقع في (ن)فإذا كان هذا المبدأ عقلي بديهي ينبغي أن يكون لازمه كذلك وبنفس الدرجة.لأن ذلك يلزمنا لو اتفق (ن-1 ) في (أ ب) وقعت صدفة فسوف يتحتم ان لا يقع في المرة العاشرة والا وقعت الصدفة على خط طويل ..فالسؤال هو: هل لنا يقين بهذه القضية (الملزوم) بنفس الدرجة من القضية الأخرى(اللازم) ؟الاعتقاد بأنّ الصدفة النسبيّة لا تتكرّر عشر مرّات متتابعة ليس علماً عقليّاً، إذ لو كان علماً عقليّاً لأدّى إلى الاعتقاد ـ بنفس الدرجة ـ بالقضيّة الملازمة. وهذا يعني أنّا نواجه علماً من نوع جديد وغريب على الذهنيّة المنطقيّة التقليديّة، إذ نتعامل مع قضيّتين متلازمتين بطريقتين مختلفتين، فنعتقد بإحداهما ونشكّ في الاُخرى.الاعتراض السادساختلاف (ن) من حالة الى اخرىان وجود (ب) في التجربة الاولى بعد ان وجدنا (أ) يؤدي الى امرين :1- ان نكون متأكدين من عدم وجود (ت) , ففي هذه الحالة يتحتم على المنطق الارسطي ان يكتفي بتجربة واحدة للتوصل الى العلم بسببية (أ) لــ (ب) ايمانا منه بمبدأ السببية لعدم وجود (ت) .2- ان يكون وجود (ت) وعدمه كلاهما محتملا, ففي هذه الحالة يتوقف مبدأ السببية على تكرار التجارب في عدد كبير من المرات , لانه كلما كبر احتمال وجود (ت) ضعف الاحتمال بسببية (أ) لـ (ب) والعكس صحيح , وهذا ينبه ان الاتفاق لا يكون دائميا ولا اكثريا مرجعه للاحتمالات ونسبتها فهي التي تحدد درجة (ن) المطلوبة .س / لو اقترن أ ب ولا نعلم بوجود سبب اخر (ت) فما هي درجة احتمال (ت) ؟ج/ اذا لم نكن نعلم بوجود اسباب اخرى لــ (ب) سيكون ميلنا الى الاعتقاد بسببية (أ) لــ (ب) اكبر مما اذا كنا نعلم .والقصة هنا هي تراكم احتمالات وهذا لا يعني وجود مبدأ بديهي نطبقه على خط طويل من التجارب , فهذا الخط الذي فرضناه (ن) تبين انه يتغير رياضيا . لانه بخلافه يجب ان تكون (ن) دائمة, وهو غير صحيح؛ لانه في بعض الاحيان نكرر التجارب كثيرا لوجود اسباب متعددة لــ (ب) غير (أ) فنحتاج الى تكرار التجارب كي نضعف الاسباب الاخرى .فيصبح لدينا علم اجمالي بالسببية وهذا العلم الاجمالي تتعدد اطرافه كلما كبرت عدد احتمال وجود (ت) .ملحوظة/ كلما كان احتمال (أ) كبيرا سيكبر بتكرار التجارب وكثرتها اسرع فيما لو كان احتماله صغيرا .وهذا يؤكد على ان مرجع العملية الاستقرائية الى تراكم الاحتمالات, فلو كان مرجعها الى القاعدة التي ادعى المنطق الارسطي بداهتها لما اختلفت (ن) من حالة الى اخرى .ملحوظة2/كلما وجد الاحتمال وجد العلم الاجمالي, واطرافه محتملات .الاعتراض الخامسوهو عبارة عن الوجه الآخر للاعتراض السادسفلو أعطينا مجموعة من الأشخاص شراب يزيل الصداع ولنفرضه لبنا فكلما قدمنا لأحدهم لبن زال الصداع فعرفنا وجود علاقة سببية, لكن بعد ذلك اكتشفنا في حالة من الحالات ولنفرضها ن-1 ان احد الأشخاص الذين أجرينا عليهم التجربة وفي تلك اللحظة قد تناول قرص ( البراسيتمول ) الكفيل بإزالة الصداع, فهنا سيزول علمنا بالسببية لهذا الاكتشاف وسيكون علمنا تماما مثل علمنا بنجاح تسع حالات فقط .والمفروض أن المبدأ البديهي ينطبق في الحالتين لكنا نراه مع قرص البراستمول لم ينطبق, فبعد (ن) لابد أن تكون علاقة سببية لكن مع هذه الحالة فقد استقراره .فمرجع الاستقراء الى تراكم الاحتمالات لا الى المبدأ الارسطي والا لانطبق على (ن) في كل الاحوال .الاعتراض الرابعيقوم هذا الاعتراض والاعتراضات القادمة على اساس التشابه والاشتباه , ونفي وجود علم اجمالي قائم على هذا الاساس .وهنا لابد من مقدمةهذا الاعتراض يناقش فكرة كون المبدأ المذكور علماً إجمالياً قبلياً قائماً على أساس التشابه والاشتباه.وقبل بيان الاعتراض نعيد بيان معنى العلم العقلي القبلي عند المنطق الأرسطي:إنّ العلم عند أرسطو يهدف إلى اكتشاف ماهيات الأشياء, وهذا الاكتشاف يقتضي معرفة العلاقات القائمة بين الماهيات في عالم الوجود، وهذه المعرفة ينبغي أن تكون حقيقة، وأنى لها ذلك من غير البرهان, تلك الدعامة التي توصلنا إلى اليقين الذي يستكشف الثبوت القائم بين الماهيات، وهذا اليقين يحصل باليقين بالنسبة بين الشيئين وباليقين بضرورة ثبوتها؛ إذ لولا ذلك لكانت العلاقة والنسبة عرضية وهو خلاف العلاقة الحقيقية بين الماهيات في عالم الوجود.فلابدّ للدليل أن يتفضل علينا باليقين الذي لا يزول وهو المركب من اليقين بالنسبة ومن اليقين بعدم جواز أن تكون النسبة على غير ما هي عليه.وللوصول إلى هذا اليقين يجب الانطلاق من مبادئ غير مستقاة من الدليل وإلا لزم التسلسل، وهذه المبادئ هي مبادئ البرهان المذكورة في المنطق والتي منها تتركب القضايا النظرية.فالبرهان في منطق أرسطو هو النظام المعرفي الذي من خلاله تستكشف العلاقات الحقيقية بين الأشياء.إذاً فالعلم العقلي الاولي –أي المستقل عن الحس والتجربة- لابدّ أن يتوفّر على هذا الشرط, وهو أن يكون ثبوت المحمول فيه للموضوع ضرورياً، وهذه الضرورة إما أن تفرضها طبيعة الموضوع بمعنى أن الموضوع لذاته يقتضي هذا المحمول وإما أن تكون نتاج سبب خارجي أدّى إلى ثبوت المحمول للموضوع.فإن كانت الضرورة من القبيل الأول فالعلم العقلي علم أوّلي، وهو الأساس للمعارف البشرية ولا يحتاج إلى دليل عليه.وإن كانت من القبيل الثاني فالعلم العقلي علم ثانوي نظري يُتوصّل إليه عن طريق معرفة السبب الذي أدّى إلى ثبوت المحمول للموضوع.إذا اتضح هذا كلّه نأتي الآن لبيان الاعتراض فنقول:إن المبدأ الأرسطي إذا كان قائماً على أساس التشابه والاشتباه فهو مرتبط بصدفة محددة في الواقع غير أنّا عاجزون عن تحديدها.وإذا كان كذلك فعدم وقوع تلك الصدفة إما أن يكون ضرورياً أو لا، فإن كان غير ضروري فليس هو بالعلم العقلي القبلي عند المنطق الأرسطي لاشتراطه الضرورة كما تقدم.وإن كان ضرورياً فإما أن تكون هذه الضرورة ذاتية أو لا، والأوّل خلف الفرض إذ الضرورة الذاتية خلف كون الصدفة صدفة لأن معنى الصدفة هو إمكان الوقوع وإمكان عدم الوقوع.أما إذا كانت الضرورة غير ذاتية فهي إذاً عرضية وناتجة عن عدم توفر السبب الكافي لوجودها وهذا يعني أننا نعتقد بعدم حدوث تلك الصدفة الخاصة لعدم وجود سببها.مع أننا عندما نجري التجربة لا نعلم الأسباب الحقيقية وعلمنا الإجمالي لا يرتبط بأي فكرة مسبقة عن أسباب تلك الصدف.إذاً فالعلم الإجمالي إذا كان قائماً على أساس التشابه والاشتباه فهو لا يمكن أن يكون علماً عقلياً قبلياً.5- الاعتراض الثالث :المطلوب إثباته في هذا الاعتراض نفي كون المبدأ الأرسطي علماً إجمالياً قائماً على أساس التشابه والاشتباه سواء أكان هذا المبدأ عقلياً قبلياً أم لم يكن كذلك.إن العلم الاجمالي القائم على أساس الاشتباه مرتبط دائماً بصدفة محددة في الواقع وإن كانت غير محددة عندنا نتيجة للتشابه والاشتباه، وبالتالي فإن أي شك يطرأ على الجامع يؤدّي إلى زوال هذا العلم شأنه شأن كل علم إجمالي من هذا القبيل، ففي مثال الكتاب الذي سلف ذكره لو شكّ الناظر إلى المكتبة في وجود الفراغ من رأس ولم يكن متيقناً من وجود فراغ في الرف بسعة كتاب فحين ذاك لا معنى لأن يشك في أن الكتاب المفقود هو كتاب المنطق أو الصرف مثلاً، فشكّه في الجامع يؤدي إلى زوال العلم الإجمالي المتعلق بالأطرف.أما في الاقترانات المتكررة فالأمر ليس كذلك، إذ لا نجد علمنا الاجمالي بأن صدفة نسبية لن تتكرر في (ن) من التجارب مرتبطاً بنفي صدفة محددة في الواقع ولذلك فإن هذا العلم لا يزول فيما لو طرأ علينا شك في أي صدفة، وهذا يعني أن هذا العلم الاجمالي ليس قائماً على أساس التشابه والاشتباه وإلا لوجدت فيه هذه الخاصة.6- الاعتراض الثاني:يهدف هذا الاعتراض إلى نفي كون المبدأ الأرسطي علماً إجمالياً قائماً على أساس التضاد والتمانع.وبيانه أننا في الأشياء التي يوجد بينها تضاد وتمانع نستطيع تأكيد القضية القائلة «لو وجدت الدوافع والعوامل الكافية لإيجاد تلك الأشياء فإنها لا يمكن أن توجد جميعاً» وما هذا إلا لعدم إمكان اجتماعها في الوجود لفرض التضاد بينها والتمانع، وهذا أمر واضح لا شك فيه.ولكن هذا الكلام لا يمكن لنا تطبيقه على الاقترانات المتكررة فلا نستطيع الجزم بأنه لو توفرت العوامل والمقتضيات الكفيلة في إيجاد الظاهرة الكذائية فإنها لن توجد في واحدة على الأقل من التجارب، بل على العكس من هذا فإننا نجزم بتحققها فيما لو توفرت عواملها الكافية.وهذا يعني أن لا تضاد ولا تمانع بين الصدف النسبية والمبدأ الأرسطي ليس علماً إجمالياً قائماً على أساس التضاد والتمانع.7- الاعتراض الأوّل:يهدف هذا الاعتراض أيضاً إلى نفي كون المبدأ الأرسطي قائماً على أساس التضاد والتمانع.وبيانه أنه لو لم تكن بين (أ) و (ب) سببية وقمنا بإيجاد (أ) في (ن) من التجارب فالمبدأ الأرسطي يقرر أن (ب) لن تقترن بـ(أ) في واحدة من هذه التجارب على الأقل.وما نريد أن نقوله هو أنْ لا تضاد ولا تمانع بين الاقترانات المتكررة فيما لو لم تكن في البين سببية بين (أ) و (ب).إذ في كل تجربة يوجد اقترانان أحدهما موضوعي والآخر ذاتي، فالموضوعي يكون بين (أ) و (ب) نفسيهما، أما الذاتي فهو بين ذات المجرّب وبين أفراد (أ) المختارة بصورة عشوائية.ونحن نقول إن التضاد والتمانع غير موجودين في أيّ من الاقترانين، أما الاقترانات الموضوعية فلا تضاد ولا تمانع بينها لأن المجرّب بإمكانه أن يختار بصورة واعية جملة من أفراد (أ) ممن تتوفر فيهم الأسباب الكافية للاتصاف بـ(ب) وبالتالي فله أن يحصل على أي عدد يشاء من الصدف النسبية المتكررة للاقترانات الموضوعية بين (أ) و (ب).وأما الاقترانات الذاتية بين الاختيار العشوائي للمجرب وبين أفراد (أ) فأيضاً لا تضاد ولا تمانع فيها إذ لا يعجز المجرب عن اختيار العدد (ن) من أفراد (أ) ممن تتوفر فيهم أسباب الاتصاف بـ(ب).إذاً فالتضاد والتمانع لا يصلحان أساساً لتفسير العلم الاجمالي الأرسطي.نعم هناك فرضية يمكن للمنطق الأرسطي الاستعانة بها لإثبات مبدئه وهي ما لو ضممنا عاملاً ثالثاً هو (ج) والذي يمثل بعضاً من (أ) يتصف بصفة مشتركة، ثم استقرأنا هذا البعض –أي (ج)- مستوعبين كل أفراده ووجدناها تتصف جميعاً بـ(ب) فعندئذٍ نستكشف وجود سببية بينها، أي بين (ج) و (ب).فإذا علمنا أن (ج) بحدّ ذاته وبوصفه المعيّن ليس هو السبب وراء اتصاف بـ(ب) وليس له أي أثر في ذلك فعندها لا يبقى إلا أن يكون (أ) هو السبب فننتقل آنذاك إلى استكشاف السببية بين (أ) و (ب) رغم عدم علمنا ببقية أفراد (أ) من غير (ج) من أنها تتصف بـ(ب) أو لا.وهذه الفرضية وإن صحت من الناحية المنطقية إلا انها تعالج أصل المشكلة بل تعالج حالة ما إذا توفر شرطان:1. افتراض وجود (ج) وأن الاستقراء استوعب جميع أفراده.2. العلم بعدم سببية (ج) لـ(ب).ونحن وإن كنا لا نملك دليلاً من عالم الطبيعة على دحض هذه الفرضية إلا انها في غاية البعد عن عالم التحقق فأنّى لنا أن نتأكد من عدم سببية (ج) لـ(ب)؟ فهل الاستنباط قادر على أن يؤكد ذلك؟ أم هو الاستقراء عندها نكون قد برّرنا الاستقراء بنفسه ووقعنا بمحذور الدور الباطل.والحمد لله رب العالمين.النجف الاشرف/ صيف/ 1432هـالكتب والبحوث المنشورة وغير المنشورة
· امير المؤمنين(عليه السلام) وقصار السور القرآنية· الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)· الإدراك البشري· العرض الذاتي· اللسانيات الاستعرافية(علم اللغة الادراكي)· الأخلاق العملية في نهج البلاغة· نظرية المعرفة عند برتراند راسل (ترجمة)· مشكلة الاستقراء· قوانين التأريخ· التناص القرآني· اسلمة المعرفة· ترجمة مناجاة الإمام زين العابدين(عليه السلام) · معالم الانقلاب القرشي· الظهور المقدس للإمام الحجة بن الحسن(عليهما السلام)
[32] - هذا هو اتجاه جون ستوارت مل حيث اتجه التجريبيون اتجاهان رئيسيان اتجاه مل واتجاه يعتقد بوجود مبادئ قبلية للمعرفة كما في القواعد والبراهين الرياضية البحتة, ويستندون للتجربة لاختبار صدق وكذب قضاياها خصوصا في العلوم الهندسية اما في الرياضيات البحتة فلا يمكن ليد الحس ان تتأكد منه تجريبيا لانه قبلي صرف .[39] - ان بديهيات اقليدس مطلقة بموضوعها وهو الأجسام المسطحة التي وضعت لأجلها.([45]) Karl Popper (1963). Conjectures and Refutations. p. 53.. "Induction, i.e. inference based on many observations, is a myth. It is neither a psychological fact, nor a fact of ordinary life, nor one of scientific procedure."(Karl Popper (1963). Conjectures and Refutations. p. 53. "The actual procedure of [46] science is to operate with conjectures: to jump to conclusions — often after one single observation"([51]) قارن: محمود فهمي زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1988م : 65 . و
Aristotle,«De Interpretation,» English translation by E. M. (Ed, hill), in: Aristotle, The works of Aristotle, translated into English under the editorship of W. D. Ross (London: Oxford University Press, 1950), chap. 9.[60] - مجلة البرهان, العدد الاول, ص237
2 التعليقات:
hhhhhhhhh
إرسال تعليق